سير الصالحين:
زُبيدة زوجة هارون الرشيد
نادية
كيلاني
تعتبر
زبيدة زوجة الخليفة العباسي "هارون الرشيد"، حفيدة مؤسس الدولة العباسية
الخليفة "أبو جعفر المنصور"، من أهم نساء الدولة العباسية وأكثرهن
شهرة، مما كان لها من دور في السلطة، ومن أهم أعمالها بناء أحواض للسقاية للحجاج
من بغداد إلى مكة، فما عرف بـ"درب زبيدة" تكريماً لها.
بعد أن
امتدت الدولة الإسلامية في العصر الأموي إلى إسبانيا غرباً والصين شرقاً، جاء
العصر العباسي ليقطف ثمار تلك العمليات العسكرية الكبرى، حتى أن الخليفة هارون
الرشيد، خامس خلفاء بني العباس، وقف على شرفة قصره في بغداد ينظر إلى سحابة عابرة،
متوقعاً وخاطبها بقوله: امطري حيث شئت، فإن خراجك سيعود إليَّ.
سيدة
عظيمة وراء خليفة عظيم
وإذا
كان المثل يقول: وراء كل رجل عظيم امرأة، فلقد كان وراء هارون امرأتان:
أمه
الخيزران، تلك السيدة المهيبة التي يعتقد كثير من المؤرخين أنها هي التي كانت تسير
أمور الدولة إبان حكم زوجها المهدي.
والثانية
زوجه، وهي التي لقبها جدها أبو جعفر المنصور زبيدة لبضاضتها ونضارتها وبياض بشرتها
– وكنيتها أم جعفر - ابنة عم هارون وابنة خالته في الوقت ذاته.
تزوّج
الاثنان في عهد المهدي والد هارون الرشيد سنة 165 هـ وكانت زبيدة حسبما تنقل لنا
كتب التاريخ سيدة بارعة الجمال، فاتنة الحديث، رزينة ذات عقل ورأي وفصاحة وبلاغة،
تنظِم الشعر وتناظر الرجال في شتى نواحي الثقافة، أحبّها الرشيد حبًا جمًا ومنحها
مكانة رفيعة ونفوذًا كبيراً، بحيث كانت على الدوام السيدة الأولى بين نسائه، فكسبت
بذلك احترام وثقة الحاشية.
عُرف
عنها أنها كانت تشير على زوجها في كثير من المناسبات والأحداث بالآراء الصائبة،
وأنها تمسك بيديها زمام الأمور أثناء غياب زوجها في غزواته الكثيرة، وقد خلفت
وراءها آثاراً عديدة في مجالات متنوعة ما زالت تحمل اسمها حتى الآن.
حبها
للعلم
عرف عن
زبيدة اهتمامها الكبير بالآداب والعلوم، فبذلت الكثير من الجهد والمال حتى حشدت في
العاصمة بغداد مئات الأدباء والشعراء والعلماء ووفرت لهم كل وسائل الإنتاج والبحث،
اشتهر منهم شيخ أدب النثر الجاحظ، وعلماء اللغة الخليل بن أحمد وسيبويه والأخفش
الأكبر، ومن علماء الدين الإمام أبو حنيفة والإمام الأوزاعي والإمام مالك بن أنس،
والكثيرون في شتى فروع العلم، وبذلت في سبيل ذلك الأموال الطائلة، حتى أنها فتحت
أبواب خزائنها لتحويل بغداد إلى قبلة ومستقر للعلماء من الزوايا الأربع للدولة،
ومن الأطباء الذين كانت تشملهم برعايتها الطبيب جبريل الذي منحته راتباً شهرياً،
قدره خمسون ألف درهم.
شخصيتها
كانت
رفيقة الخليفة في معظم رحلاته، سواء في الحروب أم للحج.
ويذكر
المؤرخون أنها في إحدى رحلات الحج شاهدت مدى معاناة حجاج بيت الله في الحصول على
مياه للشرب، حيث كان الوعاء الواحد يبتاع بدينار، فأمرت زبيدة المهندسين بدراسة
عاجلة لجر المياه إلى مكة المكرمة، فأشاروا عليها بأن الأمر صعب للغاية، حيث يحتاج
لحفر أقنية بين السفوح وتحت الصخور لمسافة لا تقل عن عشرة أميال، وقال لها وكيلها:
يلزمك نفقة كثيرة، فأمرته بتنفيذ المشروع على الفور ولو كلفت ضربة الفأس ديناراً،
فاحضر خازن المال أكفأ المهندسين ووصلوا إلى منابع الماء في الجبال. ثم أوصلوه
بعين حنين بمكة، وهكذا أسالت الماء عشرة أميال من الجبال ومن تحت الصخور، ومهدت
الطريق للماء في كل خفض وسهل وجبل، وعرفت العين فيما بعد وحتى الآن بعين زبيدة،
وما زالت القناة التي بنتها تعرف باسم نهر زبيدة. وأقامت الكثير من البرك والمصانع
والآبار والمنازل على طريق بغداد إلى مكة أيضاً، كما بنت المساجد والأبنية.
وذكرها
الخطيب، وتحدث "ابن جيد" عن هذه المرافق التي شيدتها زُبيدة حتى أصلحت
الطريق من بغداد إلى مكة، بما أقامته من منافع تخدم الحجيج والمسافرين وتوفر لهم
الماء والطعام والسكن، حتى أحيت هذا الطريق المُوحش.
قال ابن
بردي في وصفها: أعظم نساء عصرها ديناً وأصلاً وجمالاً وصيانة ومعروفاً.
لقد كانت زبيدة سيدة جليلة سخية لها فضل في الحضارة والعمران والعطف
على الأدباء والأطباء والشعراء، كما كانت ذات طبيعة صافية، تغلب عليها النزعة
الصوفية.
وكان
لها الدور الكبير في تطور الأزياء النسائية في العصر العباسي.. فقد كانت النساء من
مختلف الطبقات ينتظرن ظهورها على أحر من الجمر ويسعين إلى تقليدها في ما ترتديه من
ثياب، وقد استوردت من الهند والصين أفخر أنواع الحرير الطبيعي الموشى بالذهب
والفضة والحجارة الكريمة، وكثيراً ما تختار ألواناً باهرة لم يسبق لإحدى النساء
ارتدائها.
وهي
أيضاً أول من اتخذ القباب من الفضة والآبنوس والصندل والكلاليب من الذهب والفضة
ملبسة بالوشي والسمور وأنواع الحرير الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق.
يقول
بعض النقاد من الأدباء أن كتاب ألف ليلة وليلة إنما بني على أساس من نمط حياة
الرشيد وزبيدة، ويحاولون العثور على أوجه التشابه بين زبيدة وعدد من شخصيات
الرواية، ولكن المرأة التي اشتهرت بلقب "السيدة زبيدة" والتي كان
الجميع، باختلاف طبقاتهم ومستوياتهم يكنون لها الحب لما تميزت به من طيبة قلب
وتواضع، حفرت بأفعالها اسمها في سجل الخالدين، دونما الحاجة لأن تكون بطلة قصة في
رواية.
وفاتها
عاشت
السيدة زبيدة 32 عاماً بعد وفاة هارون الرشيد، وتُوفيت في بغداد سنة 216 هـ
الموافق 831م بعد أن عاشت في ظل المأمون معزّزة مكرّمة كما كانت في عهد أبيه، وكان
المأمون يعاملها معاملة الأم، وكثيراً ما كان يلجأ إلى مشورتها في أمور الدولة،
ويقبل برأيها، حتى لو كان مخالفاً لما يراه هو شخصياً.
...........
ـ المشهد 10-11-2011 | 23:55
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق