الأحد، 18 نوفمبر 2012

سير الصالحين:عبد الله بن المبارك- الزاهد بن الزاهد نادية كيلاني


سير الصالحين:عبد الله بن المبارك- الزاهد بن الزاهد
نادية كيلاني
من أقواله:

الدنيا سجن المؤمن، وأعظم أعماله في السجن الصبر وكظم الغيظ، وليس للمؤمن في الدنيا دولة، وإنما دولته في الآخرة!

عبد الله بن المبارك المروزي (118 هـ-181 هـ) عالم وإمام مجاهد مجتهد في شتى العلوم الدينية والدنيوية.

اتفقت جميع المصادر على أنه كان طلاَّباً للعلم نادر المثال، رحل إلى جميع الأقطار التي كانت معروفة بالنشاط العلمي في عصره.

كما كان ورعا زاهدا كريما.. لا يفتر عن ذكر الله.

اسمه ومولده وموطنه

اسمه عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي.

عن العباس بن مصعب قال: كانت أم عبد الله بن المبارك خوارزمية

وأبوه تركي، وكان عبدًا لرجل من التجار من همذان من بني حنظلة.

 سئل ابن كم أنت فقال: إن العجم لا يكادون يحفظون ذلك ولكني أذكر أني لبست السواد وأنا صغير

وكان أبو مسلم في بداية الدولة العباسية قد ألزم الرعية كبارًا وصغارًا بلبس السواد، وكان ذلك شعارهم إلى آخر أيامهم.

موطنه: مرو وهي من مدن خراسان.

نشأته:

نشأ ابن المبارك في أسرة متواضعة؛ فقد كان أبوه أجيرًا بسيطًا يعمل حارسًا لبستان أحد الأثرياء، غير أن والده هذا كان سبب رخائه أورثه المال وافرا مدرارا. إن المتأمل لهذا المال الذي وصف بأنه مدرارٌ ليعلم أنه سبب الخير كله، فقد اكتسبه "والده المبارك" بجد وجهدٍ وكفاح وصبر، فكان ثمرة يانعة مقنعة لرجل ورع، حريص على أداء حق العمل، فلم يرض إلا أن يشغل كل وقته في العمل تحريًا للأجر الحلال، فلم يتطلع يومًا للأكل من البستان، وهو ما يكتشفه صاحب البستان ويتعجب له.

 ففي إحدى زياراته طلب منه رمانة يأكلها، فجاءه بواحدة، فوجدها حامضة، فطلب منه واحدة أخرى، فكانت كذلك، فقال له: كم لك في هذا البستان وأنت لا تعرف الحامض من الحلو؟ فقال مبارك ـ صادقًا ـ:

وكيف أعرف وأنا لم أذق شيئا منه!! فتعجب صاحب البستان، وقال:

ألا تتمتع ببعض ما هو تحت يديك؟! قال مبارك: لم تأذن لي في ذلك.. فكيف أستحل ما ليس لي؟! سكت الرجل مندهشًا وقال له: فقد أذنت، من الآن فكل!

كان الأب صالحًا فاستخرج عبد الله كنزًا، وحصّل علما وأدبًا وفقها ما زالت تتوارثه الأجيال!

ومن المهم أن ابن المبارك ولد في السنة 118 هـ في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك

وكانت أمه خوارزمية فطلب العلم وهو ابن عشرين سنة فأقدم شيخ لقيه هو الربيع بن أنس الخراساني تحيل ودخل إليه إلى السجن فسمع منه نحوا من أربعين حديثا ثم ارتحل في سنة إحدى وأربعين ومئة وأخذ عن بقايا التابعين وأكثر من الترحال والتطواف وإلى أن مات في طلب العلم وفي الغزو وفي التجارة والإنفاق على الإخوان وتجهيزهم معه إلى الحج، وعاش إلى سنة 181 هـ حيث توفي في خلافة هارون الرشيد.

منهجة العلمي:

اتفقت جميع المصادر على أنه كان طلاّباً للعلم نادر المثال، رحل إلى جميع الأقطار التي كانت معروفة بالنشاط العلمي في عصره.

فيه يقول عبد الرحمن بن أبي حاتم: «سمعت أبي يقول:

 كان ابن المبارك ربع الدنيا بالرحلة في طلب الحديث، لم يدع اليمن ولا مصر ولا الشام ولا الجزيرة والبصرة ولا الكوفة»

 وقد شهد له أحمد بن حنبل بذلك أيضاً.

كان ابن المبارك يقول: «خصلتان من كانتا فيه نجا: الصدق، وحب أصحاب محمد ».

وقد كان ينشد العلم حيث رآه ويأخذه حيث وجده، لا يمنعه من ذلك مانع، كتب عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وتجاوز ذلك حتى كتب العلم عمن هو أصغر منه.

 وقد روي أنه مات ابن له فعزاه مجوسي فقال: ينبغي للعاقل أن يفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد أسبوع. فقال بن المبارك : اكتبوا هذه.

بلغ به ولعه بكتابة العلم مبلغاً جعل الناس يعجبون منه، فقد قيل له مرة:

كم تكتب؟ قال: لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد.

وعابه قومه على كثرة طلبه للحديث فقالوا: إلى متى تسمع؟ فقال إلى الممات.

 وعمل على جمع أربعين حديثا وذلك تطبيقا للحديث النبوي القائل:

 (من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء) نسأل الله أن يجمعنا به على خير.

 ولم يكن ابن المبارك يهتم بالجانب الكمي في جمع العلم فحسب, بل كان اهتمامه يتوجّه أيضاً إلى الانتقاء النوعيّ له, دافعه في ذلك أمانة العلم والاستبراء للدين, لذلك كان التثّبت العلمي هو المنهج الذي التزم به وأخضع له كل ما كان يصل إليه من أحاديث, حيث كان يتحرّى ما يقبل منها وما يردُّ من خلال اسنادها.

كما حرص على دراسة الصّحيح من أحاديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" والاشتغال بها على غيرها، حيث قال:"لنا في صحيح الحديث شغل عن سقيمه".

من كتبه: الزهد:

وقد أورد ابن المبارك في كتاب الزهد بعض الأحاديث الضّعيفة، وذلك لأنه يرى جواز العمل في الحديث الضعيف في فضائل الأعمال.

من أقوال علماء عصره:

قال نعيم بن حماد: كان ابن المبارك يُكثر الجلوس في بيته، فقيل له: ألا تستوحش؟ فقال: كيف استوحش وأنا مع النبي وأصحابه؟

قال أشعث بن شعبة المصِّيصي: قدم الرشيد الرقة، فانجفل الناس خلفَ ابن المبارك، وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب، فقالت: ماهذا؟ قالوا:

عالم من أهل خراسان قدم، قالت: هذا والله المُلكُ، لا ملكُ هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرط وأعوان.

قال محمد بن علي بن الحسن بن شقيق: سمعت أبي قال: كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، وفيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ويُقفل عليها، ثم يكتري له ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال يُنفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مُروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول، فيقول لكل واحد:

 ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طُرفها.؟ فيقول: كذا وكذا فيشتري لهم، ثم يخرجهم إلى مكة فإذا قضوا حجهم قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالُك أن تشتري لهم من متاع مكة.؟ فيقول: كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يُخرجهم من مكة، فلا يزال يُنفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسرّوا دعا بالصندوق، ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صُرته عليها اسمه.

قال سفيان الثوري: إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك، فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام.

قال ابن عُيينة: نظرت في أمر الصحابة، وأمر عبد الله، فما رأيت لهم عليه فضلاً إلا بصحبتهم النبي، وغزوهم معه.

قال القاسم بن محمد بن عباد: سمعت سُويد بن سعيد يقول: رأيت ابن المبارك بمكة أتى زمزم فاستقى شربة، ثم استقبل القبلة، فقال: اللهم إن ابن أبي الموال حدثنا عن محمد بن المُنكدر عن جابر عن النبي أنه قال : ((ماء زمزم لما شُرب له)) وهذا أشربه لعطش القيامة، ثم شربه.

قال نعيم بن حماد : كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق يصير كأنه ثور منحور أو بقرة منحورة من البكاء، لا يجترئ أحد منا أن يسأله عن شيء إلا دفعه.

قال أبو حاتم الرازي: حدثنا عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان، خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى البراز، فخرج إليه رجل، فطارده ساعة فطعنه فقتله فازدحم إليه الناس، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك وإذا هو يكتم وجهه بكمة، فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو هو. فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يُشنع علينا.

وقال أبو حسان عيسى بن عبد الله البصري: سمعت الحسن بن عرفة يقول: قال لي ابن المبارك: استعرت قلماً بأرض الشام، فذهبت على أن أرده فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي، فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه.

 قال أسود بن سالم: كان ابن المبارك إماماً يُقتدى به، كان من أثبت الناس في السنة، إذا رأيت رجلاً يغمز ابن المبارك فاتهمه على الإسلام.

قال النسائي: لا نعلم في عصر ابن المبارك أجل من ابن المبارك ولا أجل منه ولا أجمع لكل خصلة محمودة منه.

عن الحسن بن عيسى، قال: اجتمع جماعة من أصحاب ابن المبارك مثل الفضل بن موسى، ومخلد بن حسين، ومحمد بن النضر فقالوا: تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه.

 قال حبيب الجلاب: سألت ابن المبارك، ما خير ما أعطي الإنسان.؟ قال: غريزة عقل، قلت: فإن لم يكن.؟ قال: حسن أدب، قلت: فإن لم يكن.؟ قال: أخٌ شفيق يستشيره، قلت: فإن لم يكن.؟ قال: صمت طويل، قلت: فإن لم يكن.؟ قال: موت عاجل.

عن عبد الله قال: إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئة لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن لم تذكر المحاسن.

وجاء أن ابن المبارك سُئل: مَنْ الناس.؟ فقال: العلماء، قيل: فمن الملوك.؟ قال: الزهاد، قيل: فمن الغوغاء.؟ قال: خزيمة وأصحابة (يعني من أمراء الظلمة) قيل: فمن السفلة.؟ قال : الذين يعيشون بدينهم.

وعنه قال: إن البصراء لا يأمنون من أربع: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع فيه الرب عز وجل، وعمر قد بقي لا يُدرى مافيه من الهلكة،وفضل قد أُعطي العبد لعله مكر واستدراج، وضلالة قد زينت يراها هدىً، وزيغ قلب ساعة فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر.

عن ابن المبارك قال: من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته.

أثر العلم على شخصيته

 1- الورع والخشية: كان القاسم بن محمد يكثر السفر مع ابن المبارك, فلم يكن يلحظ زياده في عبادته على غيره, فيعجب من ذلك وكثيراً ما تحدّثه نفسه: بما فضل هذا الرجل علينا حتى نال هذه الشهرة بين الناس؟ فبينما هم في ليلة على عشاء انطفأ السراج, فقام بعضهم وأخذ السراج وخرج به يستصبح, وحينما عادوا نظر القاسم بن محمد إلى عبدالله بن مبارك فرأى الدموع قد بلّلت وجهه ولحيته, فقال في نفسه: بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا, ولعله حين فقد السراج فصار إلى الظلمة .. تذكّر القيامة!.

2- نشر العلم:

3- الحكمة في القول والفعل:

4- الزهد مع الغنى:

5- الفقه في الإنفاق:

من أقواله وحكمه

 الدنيا سجن المؤمن، وأعظم أعماله في السجن الصبر وكظم الغيظ، وليس للمؤمن في الدنيا دولة، وإنما دولته في الآخرة.!

ليس من الدنيا إلا قوت اليوم فقط

سئل عن قول لقمان لابنه: (إن كان الكلام من فضة فإن الصمت ذهب)، فقال: معناه لو كان الكلام بطاعة الله من فضة، فإن الصمت عن معصية الله من ذهب.!!

كان يكثر الجلوس في بيته فقيل له: ألا تستوحش.؟ فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي وأصحابه؟

كان يعتزل مجالس المنكر واغتياب الناس فقيل له: إذا صليت معنا لم لا تجلس معنا؟ قال: أذهب مع الصحابة والتابعين. قيل له: ومن أين الصحابة والتابعون؟ قال: أذهب أنظر في علمي فأدرك آثارهم وأعمالهم، فما أصنع معكم وأنتم تغتابون الناس!

كما كان مستجاب الدعوة، فقد دعا للحسن بن عيسى وكان نصرانياً: اللهم ارزقه الإسلام، فاستجاب الله دعوته فيه.

قال ابن المبارك: (الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء).

رؤى الناس في حقه:

 قال زكريا بن عدي: رأيت بن المبارك في المنام فقلت: ما فعل الله بك.؟ قال: غفر لي برحلتي في الحديث.!

ورؤى الثوري في المنام فقيل له: ما فعل الله بك.؟ قال: رحمني.. فقال له: ما حال عبد الله بن المبارك.؟ فقال: هو ممن يلج على ربه كل يوم مرتين.

هذا ما رآه الصالحون و(رؤيا المؤمن جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة) كما يقول رسول الله. فرحمة الله ورضي عنه فما أصدق قول الشاعر فيه:

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة، وهم

بعد الممات جمال الكتب والسير

(نظرت في أمر الصحابة وأمر بن المبارك، فما رأيت لهم عليه فضلا إلا بصحبتهم النبي وغزوهم معه) هذا ما قاله ابن عيينه

مكان وفاته

 توفي في مدينة هيت بمحافظة الانبار بغرب العراق سنة 181 هجرية وقبره معلوم وقد شيد الناس على قبره مقام وجامع. وقد فجر المجرمون قبره ومقامه سنة 2005 إلا أن الأهالي أعادوا بناءه لمكانته في قلوب الهيتاويين والانباريين عموما.!



رواية الحديث

روى عبد الله بن المبارك، والبيهقي، وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم:

((إذا شرب أحدكم فليمص الماء مصاً ، ولا يعب عباً ، فإنه من الكباد))

والكباد - بضم الكاف وتخفيف الباء - هو وجع الكبد، وقد علم بالتجربة أن ورود الماء جملة واحدة على الكبد يؤلمها ويضعف حرارتها، وسبب ذلك المضادة التي بين حرارتها، وبين ما ورد عليها من كيفية المبرود وكميته. ولو ورد بالتدريج شيئا فشيئا، لم يضاد حرارتها، ولم يضعفها، وهذا مثاله صب الماء البارد على القدر، وهي تفور لا يضرها صبه قليلا قليلا.

وقد روى الترمذي في "جامعه" عنه - صلى الله عليه وسلم:

((لا تشربوا نفسا واحدا كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسموا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم فرغتم)).

تم الإثبات علمياً أن المسئول عن الشعور بالعطش هو "الكبد" وعند شرب الماء دفعة واحدة يتساقط الماء بطريقة مفاجئة إلى الكبد، فيصاب بما يعرف "بالتليّف الكبدي" !

أما إذا تم شرب الماء على ثلاثة مرات.. تعمل الأولى على إنذار الكبد وإشعاره أن الماء قادم فيستعد بإبتلاله وليونه فلا يسبب للكبد التآكل!!

وهي سُنـّةٌ محمّديّةٌ وحقيقةٌ علميّة فسبحان الله، ما أعظم نعمة الإسلام؟ وما أعظم تطبيق سنن حبيبنا رسول الله (عليه الصلاة والسلام).
...................
المشهد 15-9-2012 | 14:58

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق