سير الصالحين..
سلطان العلماء.. العز بن عبد السلام
نادية
كيلاني
عالم
جليل سنّي على مذهب الأشاعرة وفقيه شافعي، الملقب بـ "عز الدين" و"سلطان
العلماء" و"بائع الملوك".
برز في زمن الحروب الصليبية وعاصر الدول الإسلامية المنشقة عن
الخلافة العباسية في آخر عهدها. أبرز نشاطه هو دعوته القوية لمواجهة الغزو المغولي
التتري وشحذه لهمم الحكام ليقودوا الحرب على الغزاة، خصوصا قطز قائد جيوش السلطان
عز الدين أيبك.
نسبه ومولده ونشأته
هو أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن
الحسن بن محمد بن مهذّب السُلمي، مغربي الأصل. ولد في دمشق عام 577 هـ، وقد نشأ
بدمشق في كنف أسرة متدينة فقيرة مغمورة، وابتدأ العلم في سنّ متأخرة نسبياً حتى
برز في الدعوة والفقه.
صفاته ومزاياه
كان العزّ بن عبد السلام جليلاً مهاباً حسن الصورة، منبسط الأسارير،
متواضعاً في مظهره وملبسه، وكان لا يتأنّق ولا يتكلّف الحشمة والوقار، ولم يكن
يتقيد بوضع العمامة على رأسه كما كانت عادة العلماء والفقهاء في عصره، وقد يلبس
طاقية من الصوف يغلب عليها اللون الداكن أو الأبيض، وقد خالط العزّ كبار دولة بني
أيوب التي أنشأها صلاح الدين في الشام ومصر.
طلبه للعلم
قصد العزّ فطاحل العلماء في عصره، وجلس في حلقاتهم، ونهل من علومهم،
وتأثر بأخلاقهم، واستوعب العلوم. فقد ابتدأ بقراءة "التنبيه" فحفظه في
مدة وجيزة، ثم أقبل بعد ذلك على المزيد من العلم حتى صار أحد أعلم زمانه.
قال عن
نفسه: «ما احتجت في علم من العلوم إلى أن أكمله على الشيخ الذي أقرأ عليه إلا وقال
لي الشيخ: قد استغنيت عني، فاشتغل مع نفسك، ولم أقنع بذلك، بل لا أبرح حتى أكمل
الكتاب الذي أقرؤه عليه في ذلك العلم».
وجمع
العزّ في تحصيله بين العلوم الشرعية والعلوم العربية، فقد برز أيضا في اللغة
والنحو والبلاغة وعلم الخلاف.
وكان
أكثر تحصيله في دمشق نفسها، ولكنه ارتحل أيضا إلى بغداد أشهراً عام 597 طلبا
للازدياد من العلم، ثم عاد إلى دمشق.
إذ كانت في زمانه الرحلة لطلب العلم قاعدة مستقرة، تعتبر منقبة
ومفخرة لصاحبها.
شيوخه
فخر الدين بن عساكر، وقد قرأ عليه الفقه.
سيف الدين الآمدي، وقد قرأ عليه الأصول.
الحافظ أبي محمد القاسم بن عساكر، وقد سمع منه الحديث.
سلوكه للتصوف
كان العز بن عبد السلام في بداية أمره منكراً على الصوفية إلا أنه
بعدما التقى بالشيخ أبو الحسن الشاذلي سلك التصوف وبدأ يحضر دروسهم.
قال السيوطي في رسالته "تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي":
«الشيخ عز الدين كان في أول أمره على طريقة الفقهاء من المسارعة إلى
الإنكار على الصوفية، فلما حجّ الشيخ أبو الحسن الشاذلي ورجع، جاء إلى الشيخ عز
الدين وأقرأه السلام من النبي صلى الله عليه وسلم، فخضع الشيخ عز الدين لذلك ولزم
مجلس الشاذلي وصار يبالغ في الثناء على الصوفية لما فهم طريقهم على وجهها وصار
يحضر معهم مجالس السماع ويرقص فيها».
وكان قد
رجع أيضاً عن إنكاره على ابن عربي الصوفي، قال السيوطي: «وحكي عن خادم الشيخ عز
الدين قدس الله روحه أنه دخل مع الشيخ إلى الجامع بدمشق، فقال الخادم للشيخ عز
الدين: أنت وعدتني أنك تريني القطب. فقال له: ذلك القطب، وأشار إلى ابن عربي وهو
جالس والخلق حلقة حوله. . فقال له:
- يا سيدي فأنت تقول فيه ما تقول؟ فقال له: هو القطب، فكرر عليه القول
وهو يقول له ذلك».
كما أخذ
التصوف من شهاب الدين عمر السهروردسي، وقرأ بين يديه الرسالة القشيرية.
في دمشق
حكم دمشق في أيام العزّ بن عبد السلام الملك الأشرف موسى ومن بعده
الملك الصالح عماد الدين إسماعيل من بني أيّوب، فقدّرا للعزّ تفوّقه في العلم
وولّوه خطابة جامع بني أمية الكبير بدمشق. وبعد فترة قام الملك الصالح بقتال ابن
أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب، حاكم مصر آنذاك، لانتزاع السلطه منه، مما أدّى
بالصالح إسماعيل إلى موالاة الصليبين، فأعطاهم حصن الصفد والثقيف وسمح لهم بدخول
دمشق لشراء السلاح والتزوّد بالطعام وغيره.
فاستنكر
العزّ بن عبد السلام ذلك وصعد المنبر وخطب في الناس خطبة عصماء، أفتى فيها بحُرمة
بيع السلاح للفرنجة، وبحُرمة الصلح معهم، وقال في آخر خطبته «اللهم أبرم أمرا رشدا
لهذه الأمة، يعزّ فيه أهل طاعتك، ويذلّ فيه أهل معصيتك»، ثم نزل من المنبر دون
الدّعاء للحاكم الصالح إسماعيل (كعادة خطباء الجمعة)، فاعتبِر الملك ذلك عصيانا
وشقّا لعصا طاعته، فغضب علي العزّ وسجنه.
فلما تأثّر الناس، واضطرب أمرهم، أخرجه الملك من سجنه وأمر بإبعاده
عن الخطابة في الجوامع. فترك العزّ الشام وسافر إلى مصر.
في مصر
وصل العزّ بن عبد السلام إلى مصر عام 639هـ، فرحّب به الملك الصالح
نجم الدين أيوب وأكرم مثواه، ثم ولاّه الخطابة والقضاء. وكان أول ما لاحظه العزّ
بعد توليه القضاء قيام الأمراء المماليك، وهم مملوكون لغيرهم، بالبيع والشراء وقبض
الأثمان والتزوّج من الحرائر، وهو ما يتعارض في نظره مع الشرع الإسلامي، إذ هم في
الأصل عبيد لا يحق لهم ما يحق للأحرار. فامتنع أن يمضي لهم بيعاً أو شراء،
فتألّبوا عليه وشكوه إلى الملك الصالح الذي لم تعجبه بدوره فتوى العزّ، فأمره أن
يعْدل عن فتواه، فرفض وطلب من الملك ألا يتدخل في القضاء إذ هو ليس من شأن السلطان.
وأدّى به إنكاره لتدخّل السلطان في القضاء أن قام فجمع أمتعته ووضعها
علي حماره ثم قال: «ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها»؟
ويرْوى
أنّه تجمّع أهل مصر حوله، واستعدّ العلماء والصلحاء للرحيل معه، فخرج الملك الصالح
يترضّاه، وطلب منه أن يعود وينفذ حكم الشرع. فاقترح العزّ على الأمراء المماليك أن
يعقد لهم مجلساً وينادي عليكم (بالبيع) لبيت مال المسلمين. وعندما نصحه أحد أبنائه
بأن لا يتعرّض للأمراء خشية بطشهم، ردّ عليه بقوله:
«أأبوك أقلّ من أن يُقتل في سبيل الله؟»
وفي آخر دولة الأيوبيين تولت الحكم شجر الدر، في تجربة تعدّ الثّالثة
في تاريخ الإسلام (بعد تولي رضية الدين سلطنة دلهي 634 هـ - 638 هـ، وأروى بنت
أحمد الصليحي باليمن 492 هـ - 532 هـ)
وكان
العزّ بن عبد السلام من الذين استنكروا الأمر وعارضوه جهرة، لاعتقاده مخالفة ذلك
للشرع، ولم يدم حكم شجرة الدرّ سوى ثمانين يوماً، وتنازلت عن عرشها للأمير عز
الدين أيبك الذي تزوّجته وبقيت تحكم من خلاله.
وبعد وصول قطز لسدّة الحكم في مصر، وظهور خطر التتار ووصول أخبار
فظائعهم، عمل العزّ على تحريض الحاكم واستنفاره لملاقاة التتار الزاحفين. ولما أمر
قطز بجمع الأموال من الرّعية للإعداد للحرب، وقف العزّ بن عبد السلام في وجهه،
وطالبه ألا يأخذ شيئا من الناس إلا بعد إفراغ بيت المال، وبعد أن يخرج الأمراء
وكبار التجار من أموالهم وذهبهم المقادير التي تتناسب مع غناهم حتى يتساوى الجميع
في الأنفاق، فنزل قطز على حكم العزّ بن عبد السلام.
مؤلفاته
ترك العزّ تراثاً علمياً ضخماً في علوم التفسير والحديث والسيرة
والعقيدة والفقه وأصول الفقه، وكتباً في الزهد والتصوف، منها:
الفوائد في اختصار المقاصد.
تفسير العز بن عبد السلام (تفسير القرآن).
قواعد الأحكام في مصالح الأنام.
الإمام في بيان أدلة الأحكام.
وكتب عن
العز بن عبد السلام
علي الصلابي، "سلسلة فقهاء النهوض الشيخ عز الدين بن عبد
السلام، سلطان العلماء وبائع الأمراء".
عبد الرحمن الشرقاوي، "أئمة الفقه التسعة"، كتاب اليوم،
أخبار اليوم:
تلاميذه
ابن دقيق العيد.
شهاب الدين القرافي.
أحمد بن فرح الأشبيلي المحدث الفقيه.
شرف الدين الدمياطي.
أبو شامة النحوي الأصولي المؤرخ.
وفاته
توفي العزّ بن عبد السلام في تاريخ 10 جمادى الأولى سنة 660 هـ
الموافق 1262م في مصر. ويومها قال الظاهر بيبرس:
(الآن فقط دان لي حكم مصر)
................
ـ المشهد 16-4-2012 | 09:00
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق